أمر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بعدم جواز الإكراه في الدين، معتبراً حرية الناس في عقائدهم مكفولة مقدسة في ظل الإسلام وتحت رايته، ويمكن تلمس ذلك من خلال النصوص القرآنية ووصايا الرسول – صلى الله عليه وسلم – والخلفاء وبنود المعاهدات والاتفاقات مع غير المسلمين. اذ لم يستجب الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى دعوة طفيل بن عمرو الدوسي حين رغب أن يرسل معه قوة محاربة لحمل قومه على الإسلام بالقوة وقال: (عد إلى قومك فادعهم وأرفق بهم). وجاءه عليه الصلاة والسلام صحابي من أهل المدينة يسأله أن يحمل ولديه على الإسلام بالقوة. فنزل قول الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ﴾ أي ظهر في هذا الدين الرشد والعلاج والهدى فلا داعي للإكراه. وقال تعالى مخاطباً رسوله الكريم – صلى الله عليه وسلم -: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: 22، 23]. وقال سبحانه أيضاً: ﴿فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]. وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾[يونس: 99]. وبدلاً من الإكراه أمر سبحانه وتعالى أن يدعو المسلمون غير المسلمين لاعتناق الإسلام بالعقل والاستدلال والمنطق والحكمة والموعظة الحسنة فقال جل جلاله: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125]. انظر إلى التلطف الكريم في الإعلان عن حرية الرأي وفي طريقة الجدل فيه. إنه سبحانه لم يقل صراحة لرسله الكريم – صلى الله عليه وسلم -، إنك أنت على حق مع أنه – صلى الله عليه وسلم – على حق. ولم يقل – تعالى – صراحة أنهم على باطل مع أنهم كانوا حقاً على باطل، ولكنه تأنى لإيراد هذا المعنى بالصورة الحسنة، التي لا تغضب المجادل، الذي أعطاه الحرية الكاملة في الإعلان عن رأيه، فقال – سبحانه: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125]. وتلطف سبحانه في مجادلة أهل الكتاب فقال: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: 46].
واباح القران استخدام أهل الكتاب في الأعمال التي يصلحون لها، ولم ينظر إلى من عاهدهم من اليهود والنصارى على أنهم قد أصبحوا من الناحية السياسية أو الجنسية مسلمين، فيما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، وإن بقوا من الناحية الشخصية على عقائدهم وعباداتهم وأحوالهم الخاصة. ولا يرى حرجاً من أن يشتغل مسلم عند أهل الكتاب، أو يشتغل أهل الكتاب عند مسلم. وبذلك فهو يقيم نظمه الاجتماعية على أساس الاختلاط والمشاركة. وقد أمر الإسلام أتباعه أن يتعاملوا مع غير المسلمين معاملة قائمة على الرِّفق والسهولة والسماحة في جميع أمور الحياة وشؤونها؛ من البيع والشراء، والأجرة والكراء؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحِم الله رجلاً سَمْحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) وهذا النص يشمل التعامل مع المسلم وغير المسلم، وفيه الحضُّ على السماحة في المعاملة واستعمال معالي الأخلاق، وترْك المشاحة، والحض على تَرْك التضييق على الناس في المطالبة، وأخذ العفو منهم وقد قرَّر الفقهاء أن أهل الذِّمة، في البيوع والتجارات وسائر العقود والمعاملات المالية، كالمسلمين، ولم يَستثنوا من ذلك إلا عَقْد الربا؛ فإنه مُحرَّم عليهم كالمسلمين، يتَمتَّع غير المسلمين بتمام حريَّتهم، في مباشرة التجارات والصناعات والحِرَف المختلفة، وهذا ما جرى عليه الأمر، ونطق به تاريخ المسلمين في شتى الأزمان. كما ضَمِن الاسلام لغير المسلمين في ظلِّ دولته، كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمن يَعولونه؛ لأنهم رعية للدولة المسلمة، وهي مسؤولة عن كلِّ رعاياها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته؛ فالإمام راعٍ، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راعٍ، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راعٍ، وهو مسؤول عن رعيته).