قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني: خطوة إيجابية، رغم بعض النقائص
صدر القانون عدد 30 لسنة 2020 المتعلق بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني المؤرخ في 30 جوان 2020، ليختم مسارا تشريعيا دام سنوات طويلة، ويحقّق خطوة أولى في التأسيس لقطاع اقتصادي ثالث، ينتظر منه أن يساهم في الحدّ من الفقر والتهميش والبطالة. فرغم وجود مئات المؤسسات المحسوبة على الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، كالتعاضديات والتعاونيات وغيرها، التي تشتغل منذ سنوات طويلة، يصعب اعتبار النسيج المتوفر حاليا كقطاع اقتصادي قائم الذات. فالقوانين المنظمة لهذه المؤسسات تفتقر لرؤية موحدة ومنسجمة، بل لا تستجيب دائما لمقومات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وتتعدّد فيها وزارات الإشراف، مما يجعل النسيج الموجود «كالجسم المفكك والمشتت»[1].
ظهرت إذن الحاجة إلى سن إطار تشريعي جديد يسمح بتجاوز مختلف العراقيل التي تعوق نمو القطاع الثالث، سواء القانونية منها أو المؤسساتية أو المالية. ولم يتّجه المشرّع نحو إلغاء النصوص الخاصة ببعض أصناف المؤسسات، ولا حتى لتعديلها جوهريا. ورغم مطالبة المركزية النقابية، وعدد كبير من النواب، بأن يتّخذ النصّ الجديد شكل قانون أساسي لضمان علويته على بقية القوانين، حسم الجدل بالإستناد لرأي المحكمة الإدارية وتمت المصادقة عليه كقانون عادي، يضبط حسب فصله الأول، «الإطار المرجعي للاقتصاد الاجتماعي والتضامني». فكان الخيار التشريعي هو التأسيس لقطاع موحّد ومنسجم وقادر على النمو والاستدامة، لكن بناء على النسيج القديم الموجود، وعلى مقاربة مفتوحة ومَرِنة قائمة على إسناد «علامة» لمن يلتزم بالمبادئ.
1. الاقتصاد الاجتماعي والتضامني: «علامة» تفترض التزامات، وتمنح امتيازات
تاريخيا، ظهرت تقنية « العلامة » لتمييز منتوجات حسب معايير معيّنة قد يصعب على المستهلك التثبت منها بمفرده، فتمنح من طرف هيكل مستقل عن المنتجين ومعترف به من الدولة[2]، بهدف تشجيع الفاعلين الاقتصاديين على الالتزام بهذه المعايير عن طريق تحويل هذا الالتزام لميزة تنافسية، عوض أن يكون فقط كلفة إضافية[3].
عرفت تقنية « العلامة” رواجا، وأصبحت تستعمل أحيانا من السلط العمومية لجمع مؤسسات اقتصادية ضمن هوية معينة أو لمنحها امتيازات، فظهرت مثلا علامة “مؤسسة مسؤولة مجتمعيا” في دول عديدة. ولئن لم يتبنّ المشرّع التونسي مقاربة “منح علامة” ضمن قانون المسؤولية المجتمعية للمؤسسات الصادر سنة 2018، فإنه اعتمدها في قانون المؤسسات الناشئة (Startup Act) الصادر في نفس السنة، حيث لا تهدف العلامة إلى إبراز ميزة للمستهلك وفق منطق تنافسي، بقدر ما تجمع مؤسسات متنوعة، بغض النظر عن أشكالها القانونية، ضمن نظام موحّد.
علامة مفتوحة على أشكال قانونية متعددة
أمام تشتت وتنوع نسيج الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في تونس، استقر الخيار التشريعي على أن تتحصل كلّ مؤسسة فرديا، على علامة «مؤسسة اقتصاد اجتماعي وتضامني». كما أبقى الفصل الثالث من القانون باب الحصول على هذه العلامة مفتوحا لأشكال قانونية لا تصنف تقليديا ضمن «القطاع الثالث»، كالشركات التجارية (باستثناء شركات الشخص الواحد) وتجمعات المصالح الاقتصادية، وبصفة عامة كل ذات معنوية خاضعة للقانون الخاص يمكن أن يحدثها المشرع، طالما احترمت مبادئ وأهداف الاقتصاد الاجتماعي والتضامني.
هذه المقاربة تختلف عمّا اقترحه الاتحاد العام التونسي للشغل في مشروعه، الذي ميّز بين مؤسسات منخرطة بطبيعتها في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وبين أخرى، كالشركات التجارية، يمكنها الإنضواء تحته اختياريا، وهي مقاربة مستوحاة من القانون الفرنسي. ولئن كان تطبيق نفس الشروط على التعاضديات والتعاونيات من جهة، والشركات التجارية من جهة أخرى للانخراط في منظومة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني خيارا قابلا للنقاش، فإنه يُفسَّر بوجود عدد كبير من المؤسسات المحسوبة، شكلا، على الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، من دون أن تطبّق مبادئه ومضمونه[4]. فقد اعتبر المشرّع أن الشكل القانوني، لوحده، لا يعني شيئا، وأن الأهم هو الالتزام بالمبادئ والأهداف.
غير أن القانون لم يحدد الطرف المسؤول على استقبال المطالب وإسناد العلامة، وذلك على خلاف قانون المؤسسات الناشئة. فقد اكتفى في فصله الثالث بالتنصيص على أجل شهر للإجابة، مع اعتبار عدم الإجابة بمثابة الموافقة، وأحال إلى أمر تطبيقي يصدر في أجل شهرين من دخول القانون حيز النفاذ، ويضبط إجراءات وشروط إسناد العلامة، وكذلك سحبها. ولئن لم ينصّ القانون على حالات سحب العلامة، فإن الإشارة إلى هذه الإمكانية تعني أن الرقابة على مدى احترام المؤسسات لمبادئ الاقتصاد الاجتماعي والتضامني لا تقتصر على مرحلة إيداع ملفها، وإنما تبقى قائمة، وذلك لتفادي استغلال بعض المؤسسات، من دون وجه حق، للإمتيازات الممنوحة للقطاع.
شروط التحصّل على العلامة
رغم انفتاح علامة “مؤسسة اقتصاد اجتماعي وتضامني” على أشكال قانونية عديدة، فإن الفصل الثاني يشترط أن تكون ذاتا معنوية خاضعة للقانون الخاص، مما يقصي الأشخاص الطبيعيين والمؤسسات الفردية وكذلك أشخاص القانون العام.
نفس الفصل يعرّف الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بأنه «منوال اقتصادي يتكون من مجموع الأنشطة الاقتصادية ذات الغايات الاجتماعية»، أي التي يكون «هدفها الأساسي توفير ظروف عيش لائقة بغاية الإدماج والاستقرار الاجتماعي والترابي تحقيقا للتنمية المستدامة والعمل اللائق»، وذلك «استجابة للحاجيات المشتركة لأعضائها والمصلحة العامة الاقتصادية والاجتماعية»، على أن «لا يكون هدفها الأساسي تقاسم الأرباح». هذا التعريف يجمع بين الغاية الاجتماعية والطبيعة الاقتصادية للأنشطة، إذ يجب أن تتعلق “بإنتاج السلع والخدمات وتحويلها وتوزيعها وتبادلها وتسويقها واستهلاكها»، مما يقصي كل من لا يمارس أي نشاط اقتصادي، كما هو حال عددٍ من الجمعيات.
ولئن أتى تعريف الاقتصاد الاجتماعي والتضامني عامّا، فإن ما يميّزه عن القطاعين العام والخاص مفصّل في سبعة مبادئ متلازمة.
أول هذه المبادئ هو «أولوية الإنسان والغاية الاجتماعية على رأس المال، واحترام قواعد التنمية المستدامة»، بضلعيها الاجتماعي والبيئي. أولوية الإنسان على رأس المال تترجم كذلك في مبادئ أخرى، وهي «التعاون الطوعي والمساعدة المتبادلة بين مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني»، عوض منطق المنافسة السائد في القطاع الخاصّ، و «الملكية الجماعية التي لا تقبل التقسيم»، وخاصة مبدأ «الربحية المحدودة».
فعلى عكس القطاع الخاصّ، لا يمثّل الربح في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني غاية بحد ذاته، وإنما وسيلة لتحقيق غايات اجتماعية. لم يكتفِ القانون بالتنصيص على المبدأ. فقد صادق النواب في الجلسة العامة على تعديل يفصّل كيفية توزيع الفواضل من المداخيل. بداية، تخصّص نسبة 15% في شكل احتياطات وجوبية وذلك إلى أن تبلغ نصف رأس مال المؤسسة (مقابل 5% فقط بالنسبة للشركات التجارية حتى تبلغ الاحتياطات عشر رأس المال[5]). ثم تخصّص نسبة لا تتجاوز 5% من الفواضل للأنشطة الاجتماعية والثقافية والبيئية، وهو ما قد يترجم خوفا من أن يتم استغلال هذا العنوان من أجل توزيع مقنّع للأرباح، وتوجسا من تكرار تجربة جمنة، التي خصّص القدر الأكبر من مداخيلها لهذا النوع من الأنشطة. أما ما يتبقى من الفواضل، فلا يمكن توزيع أكثر من 25% منه في شكل أرباح، على أن يوظف ما زاد عن ذلك في تنمية أنشطة المؤسسة وتطويرها أو المساهمة في بعث مؤسسات اقتصاد اجتماعي وتضامني جديدة. هذه القواعد تبرز أن الأهم هو ضمان ديمومة مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني ونموها وتكاثرها، من أجل تحسين مساهمة القطاع في خلق الثروة وفرص العمل والإزدهار.
مبدأ الربحية المحدودة لا ينطبق على الجمعيات الخاضعة للمرسوم عدد 88 لسنة 2011 والتي تحظى بعلامة مؤسسة اقتصاد اجتماعي وتضامني، إذ لا يمكن أن يكون لها غاية ربحية، حتى إذا مارست نشاطا اقتصاديا. كما خصّ المشرّع هذه الجمعيات بقاعدة أخرى، وهي ألاّ يتعدّى معدّل التأجير والمنح السنوية للأجراء الثلاثة الأعلى رتبة ثماني مرات الأجر الأدنى القطاعي، وذلك توقيا من استعمال عقود العمل لتوزيع الأرباح في شكل مرتبات.
بالإضافة إلى ذلك، نصّ الفصل الرابع على مبادئ أخرى متعلقة بحوكمة مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، تضمن تمييزها عن القطاع العام واستقلالها عنه. تتمثل هذه المبادئ في العضوية والإنسحاب المفتوح والطوعي دون تمييز، وهو ما غاب عن تجربة التعاضد في الستينات، وكذلك الاستقلالية في التسيير تجاه السلط العمومية والأحزاب السياسية، وهو ما يتناقض مع وضعية التعاضديات حسب قانون 1967، حيث يحتاج تأسيسها إلى موافقة من الإدارة، التي تمارس سلطة إشراف عليها ويمكن لممثليها حضور الجلسات العامة ومجالس الإدارة.
نصّ الفصل الرابع أيضا على مبدأ التسيير الديمقراطي والشفاف طبقا لقواعد الحوكمة الرشيدة وبالإعتماد على قاعدة صوت واحد لكل عضو. هذا المبدأ يضمن بأن لا يتحكم في مؤسسة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني من يمتلك أكثر مساهمات، مثلما هو الشأن في القطاع الخاص. قاعدة «صوت واحد لكل عضو» معمول بها في القانون المقارن، رغم وجود توجه في بعض الدول الأوروبية لتشجيع الاستثمار الخاص في مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي، أحيانا بمنح حقوق تصويت على قدر المساهمة، وهو ما يهدد خصوصية القطاع الثالث وجوهره
ديمقراطية التسيير تقتضي تشريك الشغالين وقد غفل القانون عن ذلك
لم ينخرط القانون التونسي في هذا التوجه. لكنه، من جهة أخرى، أضاع فرصة للتنصيص على إشراك العمّال في عملية أخذ القرار في مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، كما هي الحال في القانون الإيطالي[7]. فالتسيير الديمقراطي يقتضي ليس فقط المساواة بين الأعضاء أو المساهمين، بغض النظر عن حجم مساهمتهم، وإنما أيضا تشريك الأجراء في أخذ القرارات التي سينفذونها ويتحملون نتائجها. مثل هذه التشاركية معمول بها حتى في القطاع الخاصّ في ألمانيا منذ 1976، حيث يضمن القانون تسييرا تناصفيا بين المساهمين وممثلي الأجراء. وقد كان من الأجدر، عند التأسيس لنموذج اقتصادي بديل يعلو فيه الإنسان والغاية الاجتماعية على رأس المال، التفكير في إعادة النظر في العلاقة بين رأس المال وقوة العمل على الأقل في القطاع الثالث، وهو جانب غفل عليه القانون تماما.
بل أن القانون الإيطالي يشترط كذلك تشريك الحرفاء في عملية أخذ القرار داخل مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، تاركا لها تصوّر الصيغ الأنسب لذلك، في حين اكتفى المشرع التونسي بالتنصيص على مبدأ “التسيير الديمقراطي والشفاف”، وقاعدة « صوت لكل عضو »، دون اشتراط أي تشاركية.
فرغم تبنّيه مبادئ الاقتصاد الاجتماعي والتضامني المتعارف عليها في القانون المقارن، اكتفى المشرع التونسي في معظمها بالحدّ الأدنى، باستثناء مبدأ الربحية المحدودة الذي أتى مفصّلا.
كل هذه المبادئ ملزمة لمؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، سواء في أنظمتها الأساسية أو في أنشطتها. ونظرا لأن المؤسسات الموجودة حاليا، على اختلاف أصنافها، لا تطبق كليا هذه المبادئ، فإن القانون منحها أجل ستة أشهر لتعديل أنظمتها الأساسية، وذلك انطلاقا من صدور قرار وزاري يتضمن الأنظمة الأساسية النموذجية، والمضبوط هو الآخر بأجل ستة أشهر على دخول القانون حيز النفاذ. فالحصول على علامة «مؤسسة اقتصاد اجتماعي وتضامني»، كما الحفاظ عليها، يبقى رهين الإلتزام بهذه المبادئ.
حوافز وامتيازات متنوعة… ومؤجّلة
لا يقتصر الهدف من سنّ قانون للاقتصاد الاجتماعي والتضامني على تنظيم هذا القطاع، وإنما خاصة دعمه وتشجيعه. لذلك، أقر الفصل 17 تمتيع مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بامتيازات جبائية ومالية، حسب صنف المؤسسة وطبيعة نشاطها ودون التقيد بجهة الإنتصاب. فعلى خلاف استثمارات القطاع الخاص التي تحاول الدولة توجيهها للجهات المحرومة، وذلك عبر منح امتيازات جبائية لم تفلح إلى الآن في تغيير واقع هذه الجهات، لا يميّز دعم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بين جهة وأخرى.
لكن القانون لم يحدّد هذه الإمتيازات، وإنما أحال إلى أمر حكومي يفصّل الامتيازات المالية، في حين سكت عن الامتيازات الجبائية. قد يكون قصد المشرّع هو ترك تحديد الإمتيازات الجبائية لقوانين المالية، لكن الأصل هو تضمينها في القانون المنظم للاقتصاد الاجتماعي والتضامني، كما هو الشأن مثلا في القانون المتعلق بالمؤسسات الناشئة. ونخشى هنا أن يؤول هذا الاختيار إلى تمكين وزارة المالية من حصرها في بعض الامتيازات الجبائية حسب الشكل القانوني للمؤسسة وطبيعة نشاطها[8]، فلا تستفيد منها كل مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني ككل، وهو أمر يتعارض جوهريا مع فلسفة القانون الجديد.
بالإضافة إلى ذلك، عدّلت الجلسة العامة النسخة الواردة في مشروع القانون الحكومي والتي أقرتّها اللجنة، والتي كانت تنصّ على تمتع مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني «بأفضل الامتيازات الجبائية والمالية». ولا يعني حذف لفظ «أفضل» فقط امكانية منح امتيازات أكبر لمؤسسات القطاع الخاصّ، وإنما كذلك تأجيل تمتع المؤسسات الحاصلة على العلامة بالامتيازات الجبائية، باستثناء ما هو موجود لفائدة بعض الأصناف وسابق لهذا القانون، إلى تدخّل تشريعي لاحق.
من جهة أخرى، أقرّ الفصل 16 تخصيص نسبة من الطلبات العمومية، أي الصفقات العمومية أساسا[9]، إلى مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني. ورغم صعوبات المالية العمومية وسياسيات التقشف في السنوات الأخيرة، حافظت الصفقات العمومية على دورها المحوري في دفع الاقتصاد، إذ تمثل سنويا قرابة 13% من الناتج الداخلي الخام. وهي كذلك أداة لمساعدة المؤسسات الصغرى، إذ يخصّص لها الأمر عدد 1039 لسنة 2014 المنظم للصفقات العمومية 20% من طلبات كل مشترٍ عمومي. نفس المنطق فرض تخصيص نسبة لمؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، التي يصعب عليها منافسة الشركات الكبرى في اجراءات طلب العروض، مما يقتضي تخصيصها دون سواها بنسبة من الشراءات العمومية مع ضمان المنافسة وتكافؤ الفرص فيما بينها. ورغم معارضة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية لمنح هذا الإمتياز لمؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني[10]، يبقى هذا المبدأ معمولا به في تجارب مقارنة[11]. فهذه النسبة تبلغ 30% في سلوفينيا مثلا. إلا أن القانون عدد 30 لسنة 2020 اكتفى بوضع المبدأ، من دون تحديد النسبة ولا شروط تطبيقها التي ستنظم بأمر حكومي.
كما أن هذا الإجراء يبقى غير كاف، إذا ما لم تتم مرافقة مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني للإلمام بإجراءات الصفقات العمومية. لذلك اقترحت الدراسة الاستراتيجية حول الاقتصاد الاجتماعي والتضامني مساعدة هذه المؤسسات بموارد بشرية في إطار برامج التشغيل[12].
هذه الحوافز تُضاف إلى ما سبق وأن نصّت عليه مجلة الجماعات المحلية، من واجب تخصيص اعتمادات من ميزانيات الجماعات المحلية لدعم مشاريع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وواجب الدولة دعمها في ذلك بواسطة اتفاقيات معها[13].
منظومة تمويل خصوصية
الحوافز المالية والجبائية، على أهميتها، لا تكفي لتوفير مقومات الحياة لمؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، إذا ما تركت رهينة لمسالك التمويل التقليدية. فرغم طابعه الربحي، يشكو القطاع الخاص من صعوبة النفاذ للتمويل البنكي. وقد أضحى القطاع البنكي من أبلغ الأمثلة على «الاقتصاد الريعي»، حيث لا يخضع لمنافسة حقيقية، وإنما تتصرّف البنوك ككارتيل يحدّد أسعاره بالاتفاق، لا حسب قاعدة العرض والطلب[14]. فإذا كان التمويل البنكي، حسب المعهد التونسي للتنافسية والدراسات الكمية، «من أشد العراقيل» أمام مؤسسات القطاع الخاصّ، سواء في كلفة القرض البنكي أو حتى في امكانية النفاذ إليه أصلا[15]، فإن الوضعية ستكون أكثر تعقيداً بالنسبة لمؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، نظرا لهشاشتها، على الأقل في بداياتها، وصعوبة إقناع البنوك بمردوديتها.
لذلك، أقرّ الفصل 15 من القانون عدد 30 لسنة 2020 جملة من المسالك الخصوصية لفائدة مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني. تتمثل هذه المسالك أولا في «آليات تمويل ملائمة» مع تركيز وتطوير منصات خاصة لهذه الغاية، وهو ما يشمل مثلا طريقة التمويل التشاركي الذي صادق البرلمان مؤخرا على القانون المنظم له[16]. كما خصّص القانون خطوط تمويل تفاضلية لدى المؤسسات المالية، أي بتكاليف أقلّ وبشروط أخفّ. وأحدث الفصل 18، أسوة بقانون المؤسسات الناشئة، آلية ضمان لما تتحصل عليه مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني من قروض وتمويلات من قبل البنوك ومؤسسات التمويل الصغير، وكذلك لمساهمات مؤسسات الاستثمار الجماعي فيها، وذلك لتشجيع مختلف المؤسسات البنكية والمالية والاستثمارية على الإنخراط في دعم القطاع الثالث. ويتمّ تمويل آلية الضمان باعتماد مالي من موارد الصندوق الوطني للتشغيل، وكذلك من مساهمة المستفيدين بنسبة 1%من مبالغ القروض والهبات وغيرها من الموارد المصرح بها.
غير أن أهم آلية تمويل أقرها القانون تتمثل في إحداث بنوك تعاضدية. جاء هذا المقترح في مشروع الاتحاد العام للشغل، ودعمته أيضا الدراسة الاستراتيجية، التي أوصت كذلك بدراسة فكرة تحول البنك التونسي للتضامن إلى بنك تعاضدي. والبنوك التعاضدية هي بنوك يكون فيها الحرفاء هم أنفسهم شركاء في ملكيتها، وتهدف لإتاحة فرص التمويل لفئات مقصاة منها، لأنها تعلي المنفعة الاجتماعية على المردودية المالية[17]، وهي موجودة في دول عديدة، كفرنسا وإيطاليا وسويسرا. إلا أن وزارة المالية استماتت في رفض هذه الفكرة، مما أدى إلى التخلي عنها في مشروع القانون الحكومي، لتتحول هذه النقطة إلى أحد أبرز الانتقادات التي وجهتها المركزية النقابية وعدد من مكونات المجتمع المدني للطرح الحكومي. في النهاية، قرر النواب التنصيص على إحداث بنوك تعاضدية، على أن تخضع للقانون عدد 48 لسنة 2016 المنظم للبنوك، ولنظام أساسي نموذجي يصدر بمقتضى أمر حكومي تطبيقا للقانون الأساسي العام للتعاضد، الصادر سنة 1967.
وزارة المالية استماتت في رفض مقترح البنوك التعاضدية، لكن البرلمان أقرها
كل هذه الآليات تترجم وعيا بأهمية رهان التمويل بالنسبة لقطاع غايته الأساسية ليست ربحية، لا يزال رغم التجارب التاريخية والنسيج الموجود في طور التأسيس، وسط اقتصاد يشكو أصلا من صعوبات كبيرة في التمويل.
2. الاقتصاد الاجتماعي والتضامني: قطاع اقتصادي مهيكل وقابل للإحصاء
من الواضح، سواء بقراءة النصّ القانوني نفسه، أو بالرجوع لأعماله التحضيرية، وقبلها مختلف الاستراتيجيات والمخططات الحكومية، أن الأحلام المعلّقة بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني كبيرة. فالأمر يتعلّق بالتأسيس لقطاع اقتصادي ثالث، يساهم بشكل ملموس في التشغيل والنمو والتقليص من الفقر والهشاشة.
وقد حدّدت الدراسة الاستراتيجية التي سبقت صياغة مشروع القانون أربع دعائم لتأسيس القطاع الاجتماعي والتضامني، تتمثل في الدعامة القانونية، وهو ما تحقق بصياغة الإطار التشريعي، ومنظومة التمويل التي تعرضنا لها، وكذلك الدعامة المؤسساتية والمنظومة الإحصائية
ثلاثة هياكل لثلاثة أدوار: الإشراف والاستشارة والتمثيل
كانت الدعامة المؤسساتية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني من أهم مسائل الخلاف عند نقاش فكرة القانون. وقد طرحت الدراسة الاستراتيجية أربعة سيناريوات:
الثالث أضافته الدراسة الاستراتيجية وهو مستوحى من التجارب المقارنة، وهو إشراف حكومي مباشر على القطاع، بالإضافة إلى مجلس للحوار والاستشارة،
الرابع يتمثل في إحداث هيئة مستقلة تتركز لديها مهام الإشراف والتنفيذ وصياغة البرامج والحوار.
لم يحسم مشروع القانون، في صيغته الواردة من الحكومة، الخيار، حيث نصّ في فصل وحيد على إحداث مجلس أعلى للحوار والتشاور، مع ترك الباب مفتوحا أمام إمكانية إحداث هيئة عمومية بأمر حكومي لتتولى إدارة مختلف الجوانب الفنية للقطاع. لكن النواب خيّروا تخصيص باب يتضمن أربعة فصول بعنوان «حوكمة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني»، يضبط هيكلة ثلاثية تشمل، إلى جانب هيئة الإشراف والمجلس الأعلى الاستشاري، هياكل تمثيلية.
فقد اقتضى الفصل السادس أن «تكوّن مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني فيما بينها هياكل تمثيلية تجمعها على المستوى المجلس والجهوي والوطني»، وذلك «لتنسيق أنشطتها المشتركة وتطوير قدراتها»، على أن تضبط بنفسها أنظمتها الأساسية النموذجية. كما أحدث الفصل السابع «المجلس الأعلى للاقتصاد الاجتماعي والتضامني»، ويتمثل دوره في إدارة الحوار التشاركي والتشاور بين كافة الأطراف المتدخلة، وهو ما يظهر في تركيبته التي تشمل ممثلين عن الهياكل العمومية المتدخلة وممثلين عن مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وخبراء مستقلين وممثلين عن المجتمع المدني، مع إسناد الكتابة القارة للوزارة المعنية بالموضوع. ويتولى المجلس الأعلى «اقتراح التوجهات الكبرى الرامية إلى تطوير» القطاع، وإبداء الرأي وجوبا في كل مشاريع النصوص التشريعية والترتيبية المتعلقة به.
أخيرا، أحدث الفصل الثامن «الهيئة التونسية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني»، وهي هيئة عمومية تتمتع بالاستقلالية المالية والإدارية، وتعمل تحت إشراف الوزارة المعنية. واللافت أن القانون نصّ كذلك على عدم خضوعها للقانون عدد 9 لسنة 1989 المتعلق بالمساهمات والمنشآت والمؤسسات العمومية، وذلك لتمييزها عن المؤسسات العمومية غير الإدارية ومنحها حرية أكبر في التصرّف والإنجاز. كما نصّ على خضوع أعوانها لنظام أساسي خاصّ.
هذا الجمع بين الاستقلالية والتحرّر من بعض القيود، من جهة، والإشراف الحكومي من جهة أخرى، يمثل ترجمة قانونية للسيناريو الرابع الذي أعدته الدراسة الاستراتيجية، والتي طمحت لهيئة مستقلة متحررة من القيود البيروقراطية، وقادرة على الإنجاز بأساليب عصرية وناجعة، تكون في نفس الوقت مسؤولة أمام الحكومة، بما أن تطوير الاقتصاد الاجتماعي والتضامني يبقى في صميم السياسات العمومية. غير أن الهيئة التي جاءت في تصوّر الدراسة الاستراتيجية، لا تقتصر على مهمة الإشراف على القطاع، وإنما تجمع مختلف المهام صلبها.
ورغم أن الهيئة التي أحدثها القانون لا تشمل دوريْ الحوار والتمثيل، فإن الفصل التاسع حدّد لها مهامّ واسعة، إذ منحها اختصاصا عامّا لإدارة جميع الجوانب الفنية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني عدا ما أسند لغيرها بنص خاص، وما لا يقلّ عن عشرة مهام خصوصية، كإعداد الدراسات والخطط والاستراتيجيات للنهوض بالقطاع، وتوزيع المسؤوليات في تنفيذ برامج الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، ومهام المتابعة والتقييم، بالإضافة إلى تكوين مختلف المتدخلين وتوفير المرافقة والتأطير لمؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، الخ. وقد حدّد الفصل 24 أجل سنتين لإحداث الهيئة التونسية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني، على أن تتولى هذه المهام، في انتظار ذلك، الوكالة الوطنية للتشغيل.
أثارت الصلاحيات الواسعة الممنوحة للهيئة التونسية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني بعض الانتقادات، حيث اعتبرها البعض مدخلا لضرب استقلالية مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني عن السلط العمومية[19]. إلا أن هذا المبدأ لا يعني ترك القطاع تحت إشراف ممثلي المؤسسات أنفسها. فصياغة السياسات العمومية في مجال الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وكذلك تنفيذها، يكونان دائما من صلاحيات الهياكل العمومية، سواء وزارات أو مؤسسات عمومية، وذلك في مختلف التجارب المقارنة. وبغض النظر عن الصعوبات التي تعترض الهيئات المستقلة في تونس، لا معنى لسحب قطاع كالاقتصاد الاجتماعي والتضامني من الإشراف الحكومي، إذ لا يتعلق الأمر بمجال ذي رهان ديمقراطي ينبغي حمايته من النزعة السلطوية أو الحسابات السياسية للحكومة، كالانتخابات أو الإعلام السمعي البصري أو حقوق الإنسان أو مكافحة الفساد، ولا بدور تعديلي بين متنافسين في سوق رأسمالية.
هذا لا يعني بالضرورة أن هذا الخيار التشريعي كان الأمثل. فرغم أن المشرّع حاول، عبر الهيكلة الثلاثية، التوفيق بين اعتبارات ومطالب مختلفة، قد يساهم هذا القانون في ظاهرة «التضخم المؤسساتي»، وقد يؤدي إلى تضارب في الرؤى أو نوع من التنافس بين مختلف هذه الهياكل دون آليات واضحة لحسمه.
المنظومة الإحصائية: شرط للنهوض بالقطاع
من بين المهام المناطة بعهدة الهيئة التونسية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وضع قاعدة بيانات جامعة ومحيّنة لمؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني ونشرها للعموم على موقعها الإلكتروني. ويجب أن تكون هذه البيانات متطابقة مع السجّل الوطني للمؤسسات، حيث أن مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني مشمولة بواجب التسجيل والتحيين في هذا السجلّ الجامع، مع إفرادها بسجلّ فرعي لتسهيل عملية إحصائها. وقد منح الفصل 22 للمؤسسات الموجودة قبل صدور القانون أجل ستة أشهر من تاريخ حصولها على العلامة، قابلة للتمديد مرة واحدة، لتسوية وضعيتها في علاقة بالسجل الوطني للمؤسسات، وإلا اعتبرت منحلة قانونا.
بالإضافة إلى ذلك، نصّ الفصل 12 على إحداث «حساب قمري» لدى المعهد الوطني للإحصاء لتجميع المعلومات حول مؤسسات القطاع، دائما في تطابق مع معطيات السجل الوطني للمؤسسات.
ورغم أنها ليست المرة الأولى التي يهتم فيها المشرّع بقابلية موضوع معيّن للإحصاء، يترجم تخصيص الباب الثالث من القانون لهذا الجانب وعيا بأهمية إيجاد بيانات دقيقة حول القطاع الثالث ومختلف مؤسساته ليتسنى النهوض به. فقد كان غياب الإحصائيات من أبرز الصعوبات التي اعترضت الخبراء الذين أعدّوا الدراسة الاستراتيجية، إذ أن المعلومات حول النسيج الحالي مشتتة بين عدة وزارات وهياكل، وبعضها منقوص وغير محيّن. كما أن المعطيات المحاسبية حول مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني لم تكن متاحة لدى المعهد الوطني للإحصاء، نظرا لأن التقسيم المعمول به لا يعترف بها كقطاع مستقل.
خلاصة
حاول المشرّع في قانون الاقتصاد التضامني والاجتماعي الاستجابة لمختلف التطلعات والاستفادة من مخرجات الدراسة الاستراتيجية، وهذه عادة محمودة تضمن أن تسبق عملية التشريع دراسات معمقة، وأن ينخرط القانون صلب استراتيجيات أوسع، تشمل السياسيات العامة ككل. وقد تدارك النواب بعض النقائص في مشروع القانون، خصوصا تلك التي نجمت عن موقف وزارة المالية، كمسألة البنوك التعاضدية، أو تردّد الحكومة، فيما يخصّ هيكلة القطاع، في حين أغفلوا أخرى، كعدم ذكر الجهة المسؤولة على منح «العلامة» أو عدم تفصيل الإمتيازات الجبائية. كما أن تنزيل أحكام هذا القانون على أرض الواقع يبقى رهين صدور الأوامر الحكومية، التي لا يقلّ عددها عن ستةوقد أثبتت التجربة أن الأوامر التطبيقية معضلة تعطّل تطبيق عشرات الأحكام التشريعية لسنوات أحيانا. دون أن ننسى أن التشريع، على أهميته، لا يكفي أبدا لتأسيس دينامية اقتصادية جديدة، لا يكون الربح مبتغاها الأساسي، بل تجمع بين الغاية الاجتماعية والإنسانية، ومقومات الاستمرار والديمومة.